فصل: مسألة شرب العصير الذي أريد به الخمر قبل أن يصير خمرا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة صيد الحيتان:

في أنه لا كراهة في صيد الحيتان قال حسين بن عاصم: سألت ابن القاسم عن صيد الحيتان لذوي المروءات والحال، هو أخف عندك أم صيد البر؟ قال لا أرى لأحد صيد البر إلا لأهل الحاجة إليه الذين عيشهم ذلك، وصيد البحر والأنهار عندي أخف من ذلك، وكأني رأيته لا يرى بأسا في صيد الحيتان.
قال محمد بن رشد: كره مالك الصيد على وجه التلهي به إلا لمن اتخذه مكسبا أو رجل قرم إلى اللحم، غنيا كان أو فقيرا. وكان الليث يكره التلهي به أيضا ويقول: ما رأيت حقا أشبه بباطل منه، يعني أنه حق لحلاله، وأنه يشبه الباطل لما فيه من اللهو والطرب. واستخفه في رواية مطرف وابن الماجشون، عنه لمن يسكن البادية؛ لأنه لا غنى لهم عنه، وكرهه لأهل الحواضر ورأى خروجهم إليه من السفه والخفة. وإنما خفف ابن القاسم في هذه الرواية صيد الحيتان ورآه بخلاف صيد البر، إذ ليس فيه من اللهو وإتعاب الجوارح في غير منفعة مقصودة ما في صيد البر، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل لهو يلهو به الإنسان باطل إلا ثلاث، وهي ملاعبة الرجل امرأته، وتأديبه فرسه، ورميه عن قوسه».

.مسألة قرى طنجة التي غلب عليها البربر:

في قرى طنجة التي غلب عليها البربر قال: وسألته عن قرى طنجة التي غلب عليها البربر العرب وأخرجوهم منها بالفتنة والغلبة عليها فيها فتظلهم الشجر، أترى بالأكل منها بأسا؟ قال لا أرى لأحد أكلها؛ لأنها عندي على وجهين: إما أن تكون كانت في أيدي العرب غصبا فلا أحب لأحد أن يأكل منها، أو كانت في أيديهم حلالا وهي اليوم غصب فلا أرى أن يؤكل منها.
قال محمد بن رشد: لا تخلو هذه القرى التي قد غصب أهلها إياها وغلبوا عليها من ثلاثة أحوال: أحدها أن يكون أهلها الذين غصبوا إياها معروفين هم أو ورثتهم، والثاني أن لا يكونوا معروفين إلا أنه يمكن أن يعرفوا ويوجدوا إن طلبوا، والثالث أن يكون قد باد أهلها لطول العهد ويئس من أن يعرفوا أو يعرف أحد من تصيرت إليهم بالوراثة.
فأما الحال الأولى: فحكم الثمرة فيها حكم أعيان المغصوب، لا يحل لأحد أن يأكل منها قليلا ولا كثيرا عند أحد من العلماء، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه».
وأما الحال الثانية: فحكم الثمرة فيها حكم اللقطة الواجب فيها أن تباع وتوقف أثمانها وتعرف، فإن لم تعرف جرى الأمر في جواز أكلها على اختلاف أهل العلم في جواز أكل اللقطة للملتقط بعد التعريف، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها». فمالك يكره له أكلها وإن كان محتاجا إليها، ويرى الصدقة له بها أفضل؟ ومن أهل العلم من يبيح له أكلها وإن كان غنيا؛ ومنهم من لا يبيح له أكلها إلا إذا كان فقيرا؟ ومنهم من لا يبح له أكلها إلا إذا كان غنيا يكون له بها وفاء إن جاء صاحبها.
وأما الحال الثالثة: وهي التي تكلم في الرواية عليها فحكمها حكم اللقطة بعد التعريف بها واليأس من وجود صاحبها، الاختيار له ألا يأكلها قولا واحدا، وهو قوله فيها: فلا أحب لأحد أن يأكل منها. وقد قال في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الجهاد في نحو هذه المسألة: أرجو ألا يكون بذلك بأس. وقد مضى القول عليها هناك، وبالله التوفيق.

.مسألة ما أوى إلى برج الرجل من حمام غيره:

فيما أوى إلى برج الرجل من حمام غيره قال حسين: سألت ابن القاسم عن البروج تتخذ للحمام فتبنى فيها الكوى خارجا من جداره، فيأوي الحمام إلى البرج في داخله وخارجه إلى حمام قد وضعها الرجل في برجه، فلا تعرف الحمامات بعينها، ما ترى في أكل فراخ حمام البرج التي أوت إليه؟ قال: إن عرف شيئا منها بعينها وعرف ربها ردها إليه إن استطاع، وإن لم يستطع ردها وعرف موضعها، فإذا فرخت رد فراخها على صاحبها، وإن ازدوجت حمامة له مع حمامة لجاره وهو يعرفها فلم يستطع ردها عليه ولا أخذها وعرف عشها التي تفرخ فيه هي وحمامته، رد على جاره فرخ حمامته. قال قلت له: وإن كانت حمامة جاره ذكرا؟ قال: نعم؛ لأنه إنما يكون ذلك على وجه الحضانة وليس على وجه البيض، كذلك قال من أرضاه من أهل العلم. قال: وكذلك كل حمامة خارج البرج في كواهن لصاحب البرج، وكل عصفور أوى إلى كواه فيه فراخه، وله أن يمنع كواه من غيره.
وسئل ابن كنانة عن نحل يجده الرجل في شجرة أو في صخرة هل ينزع عسلها؟ فقال: إذا لم يعلم أنها لأحد فلا بأس بذلك. قال مالك: وأكره أن ينصب الرجل جبحا في مكان قريب من جباح الناس وحيث ترعى نحلهم وتسرح. وقال ابن كنانة لا يحل لك أن تأكل عسل جبح نصبه غيرك لا في عمران ولا قفار، ولا يحل لك أكل حمام غيرك إذا عرفته بعينه.
قال محمد بن رشد: ما أوى إلى برج الرجل من حمام برج غيره فلم يعرفه بعينه أو عرفه فلم يقدر على أخذه فلا بأس. عليه فيه وإن عرف صاحبه، هذا ما لا اختلاف فيه أعلمه. واختلف إذا عرفه وقدر على أخذه ولم يعرف صاحبه، فظاهر قوله في هذه الرواية لا شيء عليه فيه، وهو قوله فيها وإن عرف شيئا منها بعينها وعرف ربها ردها إليه، وهو دليل قول ابن كنانة: ولا يحل لك أكل حمام غيرك إذا عرفته بعينه، ونص قول ابن حبيب في الواضحة أنه إن جهل صاحبه فلا شيء عليه فيه ولا في فراخه. وقد قيل إنه إذا عرفه وقدر على أخذه ولم يعرف صاحبه إنه يعرفه كاللقطة ولا يأكله، وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم، حكى فضل عنه أنه قال: لا ينصب لشيء من حمام الأبراج ولا يرمى، ومن صاد منه شيئا فعليه أن يرده أو يعرفه ولا يأكله. وحكم فراخها إذا عرف عشها حكم ما عرفه وقدر على أخذه، إن عرف صاحبه رده عليه، وإن لم يعرفه فعلى ما تقدم من الاختلاف.
وأما إذا ازدوجت حمامة له مع حمامة لجاره، فقال في الرواية: إنه يرد على جاره فرخ حمامته، فيأخذ أحد الفرخين، كانت حمامة جاره ذكرا أو أنثى، يريد ويكون لصاحب الحمامة الأنثى على صاحب الحمامة الذكر مثل بيض حمامته. وهذا على قياس ما روى سحنون في سماعه من كتاب الشركة عن ابن القاسم عن مالك في الرجل يأتي بحمامة أنثى ويأتي الآخر بذكر على أن تكون الفراخ بينهما، أن الفراخ تكون بينهما لأنهما تعاونا جميعا على الحضانة، يريد ويرجع صاحب الحمامة الأنثى على صاحب الحمامة الذكر بمثل بيض حمامته حسبما ذكرناه هناك. وهو على قياس القول بأن الزرع في المزارعة الفاسدة لصاحب العمل ويأتي في هذه المسألة على قياس القول بأن الزرع في المزارعة لصاحب الزريعة أن تكون الفراخ لصاحب الحمامة الأنثى منهما، ويكون عليه لصاحب الحمامة الذكر قيمة ما أعان به من الحضانة.
وقول ابن كنانة إن للرجل أن يأخذ عسل النحل الذي يجده في شجرة أو في صخرة إذا لم يعلم لأحد صحيح؛ لأنه كالصيد يكون لمن وجده. وقول مالك أكره أن ينصب الرجل جبحا في مكان قريب من جباح الناس وحيث ترعى نحلهم وتسرح، معناه إذا خشي أن يدخل فيه نحل جباح الناس ولم يتحقق ذلك، وأما لو تحققه لما جاز ذلك له ولوجب عليه إذا علم ذلك أن يرد العسل إلى صاحب النحل، ولا يكون له في ذلك إلا قيمة كراء جبحه، وبالله التوفيق.

.مسألة يأخذ غرسا من شجر غيره بغير إذنه:

في الذي يأخذ غرسا من شجر غيره بغير إذنه وقال ابن كنانة: أكره أن يأخذ الرجل من شجر غيره غرسا بغير إذنه.
قال محمد بن رشد: أما إذا أخذ من شجر غيره ملوخا يغرسها في أرضه وكان ما امتلخ منها لا قيمة له ولا ضرر فيه على الشجرة التي امتلخت منها، فهذا الذي كرهه ابن كنانة، والله أعلم.
وأما إذا كان لما امتلخ منها قيمة أو كان ذلك يضر بالشجرة التي امتلخت منها فلا يجوز لأحد أن يفعله إلا بإذن صاحب الشجر. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» فإن فعل ذلك بغير إذنه دالة عليه بسبب بينه وبينه يقتضي الإدلال عليه، فعليه أن يتحلله من ذلك، فإن حلله وإلا غرم له قيمته عودا مكسورا يوم امتلخه، وليس له أن يقتلعه ويأخذه، وعليه مع ذلك قيمة ما نقص من الشجر التي امتلخ ذلك منها. وإن فعل ذلك غصبا وتعديا بلا إذن من صاحبه ولا دالة عليه ممن يستوجب الدالة، فله أن يقتلعه ويأخذه وإن كان قد علق، إلا أن يكون بعد طول زمان وبعد نماء وزيادة بينة، فلا يكون له أن يأخذه بعينه، وتكون قيمته يوم امتلخه من شجره عودا منها مكسورا. وإن كان أضر بالشجر كان عليه مع ذلك قيمة ما نقص من الشجر. هذا قول أصبغ في الواضحة.
وقال سحنون: إنما يكون أولى بغرسه إذا كان إن قلعه وغرسه نبت، وأما إن كان لا ينبت إن قلعه وغرسه فإنما له قيمته، ولا سبيل له إلى قلعه. وكان ربيعة يقول في مثل هذا: إن نبت فإنما له قيمته أو غرس مثله. وأما إن قلع من بستانه غرسا يغرسه في أرضه دالة على صاحب البستان، فله أن يقلعه ويأخذه وإن كان قد نبت وعلق، إلا أن يتطاول وينمى نماء بينا فلا يكون له قلعه، وتكون له قيمته يوم اقتلعه نابتا؛ لأن دالته عليه- إذا كان من أهل الدالة- شبهة تمنع من قلعه. ولو كان اقتلعه غصبا غير مدلي لكان صاحب الغرس أحق بغرسه وإن كان قد نبت في أرضه وطال زمانه وثبتت زيادته؛ لأنه شيؤه بعينه أخذه حيا فنما وزاد ونبت، فهو كالصغير يغتصب أو يسرق ثم يجده صاحبه وقد كبر وشب ونما- وزاد فهو أبدا أحق به وسواء كان مما ينبت إن غرس بعد قلعه من أرض الغاصب أو مما لا ينبت هو أحق به إلا أن يشاء أن يسلمه ويأخذ قيمته نابتا يوم قلعه فيكون ذلك له، حكى ذلك ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ، وبالله التوفيق.

.مسألة ما يبقى في الكرم بعد قطافه أو في الفدان من الزرع بعد حصاده:

فيما يبقى في الكرم بعد قطافه، أو في الفدان من الزرع بعد حصاده وسئل ابن كنانة عن الكرم يقطف أو الزيتون يجنى أو الزرع يحصد، هل يجوز لأحد أن يأكل بقيته؟ قال: إن كان أهله تركوه لمن أخذه فلا بأس بأكله، وإن كانوا إنما يريدون الرجعة إليه فلا يجوز لأحد أخذه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، والمعنى فيه بين إن علم أن صاحبه تركه لمن أخذه من فقير أو غني. وأما إن خشي أنه إنما تركه لمن أخذه من المساكين، فلا ينبغي لغني أن يأكل منه شيئا، وبالله التوفيق.

.مسألة ابتياع الكلب الضاري:

في ابتياع الكلب الضاري وسئل ابن كنانة فقيل له: هل يكره للرجل أن يبتاع الكلب كما يكره للبائع بيعه، فإن الرجل ربما احتاج إلى كلب لغنمه أو لصيد؟ قال: البائع في ذلك أضيق حالا؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نهى عن ثمن الكلب». وأما المشتري فإن احتاج إلى ذلك فيما يجوز له اقتناؤه من الكلاب فلا بأس بابتياعه، وذلك ربما عسرت الهبة والمعروف ووقعت الحاجة إلى ذلك.
قال محمد بن رشد: إجازة ابن كنانة لاشتراء الكلب الضاري هو مذهب ابن القاسم، روى أبو زيد عنه في سماعه من كتاب جامع البيوع أنه قال: لا بأس باشتراء الكلاب كلاب الصيد، ولا يعجبني بيعها. وذلك نحو قول أشهب في المدونة في الزبل المشترى يجوز في شرائه من البائع؛ لأن الحاجة قد تدعوه إلا شراء الكلب للصيد وشبهه مما جوز له اتخاذه له، وكذلك الزبل إذا لم يجد من يعطيه ذلك دون ثمن ولا حاجة بأحد إلى بيعه؛ لأنه إذا لم يحتج إليه تركه لمن يحتاج إليه. وسحنون يجيز بيعه، قال ويحج بثمنه. وهو قول ابن نافع، وقد روي ذلك عن ابن كنانة، وهو قول جل أهل العلم والصحيح في النظر؛ لأنه إذا جاز له الانتفاع به وجب أن يجوز بيعه وإن لم يحل أكله كالحمار الأهلي الذي لا يجوز أكله ويجوز بيعه لما جاز الانتفاع به. ومن الدليل على ذلك أيضا قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من اقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ولا ضرعا نقص من أجر عمله كل يوم قيراط». والاقتناء لا يكون إلا بالشراء. وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عمر: أنه «نهى عن ثمن الكلب وإن كان ضاريا» يحتمل أن يكون معناه حين كان الحكم في الكلاب أن تقتل كفها ولا يمسك شيء منها، على ما روي «عن أبي رافع قال: أمرني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل الكلاب فخرجت لأقتلها لا أرى كلبا إلا قتلته حتى أتيت موضع كذا وسماه فإذا فيه كلب يدور ويلهث فذهبت أقتله فناداني إنسان من جوف البيت يا عبد الله ما تريد أن تصنع فقلت: إني أريد أن أقتل هذا الكلب، قالت: فإني امرأة بدار مضيعة وإن هذا الكلب يطرد عني السباع ويؤذنني بإلجائي فأت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاذكر ذلك له، فأتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك له فأمرني بقتله». ثم جاء عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه «أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو كلب ماشية» وأنه قال: «من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره قيراطان في كل يوم» فنسخ بذلك أمره الأول بقتل الكلاب عموما. وأما الكلب الذي لا يجوز اتخاذه فلا اختلاف في أن بيعه لا يجوز، وأن ثمنه لا يحل. روي عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ثمن الكلب حرام» وبالله التوفيق.

.مسألة يبيع العنب ممن يعصره خمرا:

في الذي يبيع العنب ممن يعصره خمرا، أو السلاح ممن يقاتل بها المسلمين، وما أشبه ذلك وقال ابن كنانة: لا ينبغي أن يباع العنب أو العصير ممن يتخذه خمرا، لا من نصراني ولا من مسلم، ولا يباع السلاح ممن يقاتل بها المسلمين، ولا تباع الأرض ممن يبني فيها كنيسة، لا تباع الخشبة ممن يتخذ منها صنما. قال: وأكره أن يكون الإنسان عونا على الإثم، قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وأما أن يتهمه ببعض ذلك ولا يدري ما يراد به فلا بأس أن يبيعه منه. قال ابن كنانة: أكره أن يبيع الرجل القمح ممن يعمل منه شرابا مسكرا، وقال ابن كنانة: يكره أن يبيع الرجل السلاح من أحد يعلم أنه يقاتل الأنفس بغير حق مشتهرا بذلك معروفا به.
قال محمد بن رشد: قال ابن كنانة في هذه الرواية إنه لا ينبغي أن يباع العنب أو العصير ممن يتخذه خمرا لا من مسلم ولا من نصراني؛ لأنه يكره أن يبيع القمح ممن يعمل منه شرابا مسكرا، ولم يتكلم على حكم البيع إذا وقع، ولا على ما يلزم البائع في التوبة مما صنع. والذي يدل عليه قوله فيه: إنه مكروه ولا ينبغي لأحد أن يفعله أن البيع لا يفسخ إذا وقع، إذ ليس فيه فساد في ثمن ولا مثمون. وقد باء بالإثم في ذلك لأنه عون على الإثم، وقد نهى الله عز وجل عن التعاون على الإثم والعدوان، فيجب عليه أن يتوب إلى الله من ذلك ويستغفره ويتصدق بما ازداد في ثمنه ببيعه ممن يتخذه خمرا. وقد قيل: إن البيع يفسخ، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة.
واختلف على القول بأنه يفسخ إن فات بمغيب المبتاع عليه، فقيل: يمضي بالثمن ويتصدق البائع بما ازداد في ثمنه إذا باعه ممن يعصره خمرا، وقيل: تصحح بالقيمة، ويجب إذا صحح بها أن لا يرد على المبتاع ما زاد الثمن على القيمة، ويتصدق بذلك إلا أن يعلم أن المبتاع لم يتخذه خمرا.
وبيع العنب ممن يعصره خمرا من المسلمين أشد من بيعه من النصارى، إذ قد قيل في النصراني إنه غير مخاطب بشرائع الإسلام إلا بعد الإسلام، فلا يكون على هذا القول المسلم إذا باع عنبه من نصراني معينا على إثم.
وحكم بيع السلاح ممن يقاتل بها المسلمين حكم بيع العنب ممن يعصره خمرا من المسلمين. وحكم بيع الأرض ممن يبني فيها كنيسة، والعود ممن يتخذ منه صنما حكم بيع العنب من النصراني ليتخذ منه خمرا، وبالله التوفيق.

.مسألة شرب العصير الذي أريد به الخمر قبل أن يصير خمرا:

في إجازة شرب العصير الذي أريد به الخمر قبل أن يصير خمرا، وكراهة معالجة العصير لئلا يتخمر وقال ابن كنانة: لا بأس بشرب العصير وإن عصر لخمر، كان الذي يعصره مسلما أو نصرانيا. قال: وأكره أن يعالج العصير حتى يستبطئ هريره وغليانه يستحله بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إذ ليس يحرم العصير قبل أن يكون خمرا فيما نوي فيه من أن يجعل خمرا، إذ لا تحرم النية الحلال ولا تحل الحرام. وإنما كره معالجة العصير حتى يبطئ هريره وغليانه فيستحل بذلك مخافة الذريعة إلى استحلال الحرام، وبالله التوفيق.

.مسألة يقول لامرأته إن لم تضعي عني مهرك فأنت طالق إن لم أتزوج عليك:

في الذي يقول لامرأته إن لم تضعي عني مهرك فأنت طالق إن لم أتزوج عليك وسئل ابن كنانة عن الذي يقول لامرأته إن لم تضعي عني مهرك فأنت طالق إن لم أتزوج عليك، فتضع عنه، هل ترى ذلك حلالا؟ قال: لا؛ لأنه خيرها بين أن تضع عنه مهرها وبين أن يضر بها، وإنما قال الله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4].
قال محمد بن رشد: قوله إن ذلك لا يحل له بين، إذ لم تضع ذلك عنه عن طيب نفسها، وإنما وضعته عنه مخافة أن يلزمه الطلاق إن لم يضرها بالتزويج عليها، فيلزمها الوضيعة ويقضي عليها بها ولا يكون لها الرجوع فيها إن طلقها، أو تزوج عليها، بمنزلة أن لو قال لها: أنت طالق إن لم تضعي عني مهرك، فوضعته عنه، فلما وضعته عنه طلقها ويؤمر أن يستحلها من ذلك أو يرده عليها من غير قضاء يقضى به عليه. ولو سألها أن تضع عنه صداقها دون أن يحلف على ذلك بطلاق، فلما وضعته عنه طلقها بحدثان ذلك لكان لها أن ترجع عليه بما وضعت عنه؛ لأنها إنما وضعت ذلك عنه رجاء استدامة العصمة، فلما لم يتم لها المعنى الذي وضعت الصداق عنه بثمنه لسببه وجب لها الرجوع به. والذي قال لزوجته أنت طالق إن لم تضعي عني صداقك، أو أنت طالق إن لم تضعي عني صداقك لأتزوجن عليك فوضعته عنه، ليس لها أن ترجع فيه وإن طلقها بفور ذلك أو تزوج عليها؛ لأن الذي وضعت عنه الصداق بسببه قد حصل لها وهو سقوط اليمين عنه بطلاقها، أو بطلاقها إن لم يتزوج عليها، فلو شاءت نظرت لنفسها فقالت له: لا أضع عنك الصداق إلا على أن لا تطلقني بعد ذلك ولا تتزوج علي. وقد مضى هذا المعنى في رسم النكاح من سماع أصبغ من كتاب طلاق السنة، وبالله التوفيق.

.مسألة شرب المرأة الدواء لتعجيل الطهر من الحيضة:

في كراهة شرب المرأة الدواء لتعجيل الطهر من الحيضة قال ابن كنانة؛ يكره ما بلغني أن النساء يصنعنه ليتعجلن به الطهر من الحيض من شرب الشجر والتعالج بها وبغيرها.
قال محمد بن رشد: المعنى في كراهية ذلك لها ما يخشى أن تدخل على نفسها في ذلك من الضرر بجسمها بشرب الدواء الذي قد يضر بها، وبالله التوفيق.

.مسألة ما يجب اجتنابه من الحرير للرجال:

فيما يجب اجتنابه من الحرير للرجال قال وسألت عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي سلمة عن الرجل تكون له القطيفة من الحرير أو الشملة من الحرير فيلتحفها بالليل، وتكون له الوسادة من حرير يتكئ عليها ويجلس، فهل الجلوس على الحرير والالتحاف به عند النوم يحرم كتحريم لباسه؟ أم إنما الشدة في لباسه؟ فقال: أما ما يبسط فلا بأس به، وقد فعله الناس. وأما ما يلبس فمنهي عنه، واللحف من اللباس، فاجتنب من ذلك ما أنت تجتنبه من لباس البز.
قال محمد بن رشد: أجمع أهل العلم على أن لباس الحرير المصمت الخالص محرم على الرجال، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حلة عطارد: «إنما يلبس هذا من لا خلاق له» وبما جاء عنه من أنه قال: «أحل لإناث أمتي لبس الحرير والذهب وحرم على ذكورها». واختلفوا في استعمال الرجال له في غير اللباس كالبسط والارتفاق وشبهه، فرخص فيه بعض العلماء، منهم عبد الملك ابن الماجشون في هذه الرواية.
والذي عليه الأكثر والجمهور أن ذلك بمنزلة اللباس، بدليل حديث مالك الذي رواه عن إسحاق بن أبي طلحة «عن أنس بن مالك: أن جدته مليكة دعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لطعام صنعته له فأكل منه، ثم قال قوموا حتى أصلي بكم قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس فنضحته بماء فصلى عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصلينا وراءه». فسمى أنس الجلوس عليه لباسا، فوجب أن يكون حكمه حكم اللباس. ومن جهة المعنى أن الحرير إنما جاء النهي عنه من جهة التشبه بالكفار؛ فوجب أن يجتنب الجلوس عليه من ناحية التشبه بهم، وكذلك الالتحاف به لأنه لباس للملتحف به، بخلاف ستور الحرير المعلقة في البيوت لا بأس بها لأنها إنما هي لباس لما ستر بها من الحيطان. واختلف في العلم من الحرير في الثوب، فمن أهل العلم من أجازه لما جاء من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نهى عن الحرير وقال لا تلبسوا منه إلا هكذا وهكذا، وأشار بالسبابة والوسطى». وروي إجازة ذلك عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في مثل الأصبع والأصبعين والثلاث والأربع، وكرهه جماعة من السلف. وكذلك اختلف السلف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ في لباس الخز وما كان في معناه، فمنهم من أجازه، ومنهم من كرهه. وقد مضى تحصيل القول فيه في أول مسألة من سماع ابن القاسم.
واختلف أيضا في إجازة لباس الحرير في الحرب، فأجازه جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك، لما في ذلك من المباهاة بالإسلام والإرهاب على العدو، ولما يقي عند القتال من أدل وغيره من السلاح، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وحكاه ابن شعبان عن مالك من رواية عيسى عن ابن القاسم عنه، خلاف قول ابن القاسم وروايته عن مالك في رسم حلف من سماعه من كتاب الجهاد. فإن استشهد وهو عليه نزع عنه على مذهب من لا يجيز له لباسه في الجهاد وبالله التوفيق لا شريك له.

.مسألة الخمر تَتَخلل أو تُخلل:

في الخمر تَتَخلل أو تُخلل قال ابن خالد: قلت لابن القاسم: فالذي يتعمد عصر خمر، ثم يتخلل في يديه، قال: لو تعمد أن يخلل الخمر فتخللت كانت الخمر حلالا.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف بين أهل العلم في أن الخمر إذا تخللت من ذاتها تحل وتطهر، وإنما اختلفوا إذا خللت هل تؤكل أم لا؟ على اختلافهم في وجه المنع من تخليلها، إذ قد قيل: إن المنع من تخليلها عبادة لا لعفة، أو قيل: بل منع من ذلك لعلة، وهي التعدي والعصيان في اقتنائها، وقيل: بل العلة في ذلك التهمة لمقتنيها في أن لا يخللها إذا غاب عليها، فيحكم عليه بإراقتها لذلك، ولا يمكن من تخليلها. فعلى القول بأن المنع من تخليلها عبادة لا لعلة، لا يجوز تخليلها في مرضع من المراضع، ويخرج جواز أكلها إذا خللت على قولين جاريين على اختلافهم في النهي هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا يقتضيه؟ وعلى القول بأن المنع من تخليلها لعلة، يجوز تخليلها إذا ارتفعت العلة، فمن رأى العلة في ذلك التعدي والعصيان في اقتنائها أجاز لمن تخمر له عصير لم ترد به الخمر أن يخلله، وقال أنه إن خلل ما عصى في اقتنائه لم يأكله عقوبة؟ ومن رأى العلة في ذلك التهمة لمقتنيها في أن لا يخللها إذا غاب عليها، أجاز للرجل في خاصة نفسه أن يخلل ما عنده من الخمر على أي وجه كان ويأكله، وإن كان الاختيار له أن لا يفعل وأن يبادر إلى إراقتها كما فعل الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ في حديث أنس.
فيتحصل في جواز تخليل الخمر ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز دون تفصيل، والثاني: أن ذلك جائز دون تفضيل على كراهة، والثالث: الفرق بين أن يقتني الخمر أو يتخمر عنده عصير لم يرد به الخمر. وفي جواز أكلها إن خللها على مذهب من يجيز له تخليلها في حلل ثلاثة أقوال أيضا: الجواز، والمنع، والفرق بين أن يخلل ما اقتنى من الخمر، أو ما تخمر عنده مما لم يرد به الخمر؛ وهذا قول سحنون، والقولان الأولان لمالك، وبالله التوفيق لا شريك له، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.